يفتخر العالم المتحضر الآن بكيف أنهم يتمتعون بالحرية والديموقراطية وكيف أن حقوق الإنسان محترمة عندهم لدرجة كبيرة وأن كل الإنتهاكات تحدث عندنا نحن العالم الثالث المتخلف ولكن هل هذا حقيقى؟ وهل هذا يمحوا تاريخهم الأسود المليئ بالفظائع؟ لنتابع سويا هذا المقال:
تفتخر الولايات المتحدة الأمريكية اليوم كون رئيسها أسود البشرة , وتعد ذلك دليلا على ترسخ ثقافة قبول الآخر وتلاشي النزعة العنصرية التي كانت سمة مميزة لشريحة واسعة من المجتمع الأمريكي لفترة طويلة . ومن حق أمريكا أن تفتخر , ومن حقها أن تتباهى على بقية الأمم .. خصوصا تلك التي مازال مواطنوها يتعرضون لصنوف التمييز على أساس عنصري وديني وطبقي .. ومن سابع المستحيل أن يتولى شخص من أقلياتها القومية والدينية منصب الرئاسة , أو حتى منصبا حساسا بالدولة , بالرغم من تشدقها الفارغ بالمساواة وانتقادها واتهامها المستمر لأمريكا بالعنصرية ! .
لكن الانجاز الأمريكي لا يمحو تاريخا طويلا من العبودية ، كابد خلاله الملايين من ذوي البشرة السوداء شتى ضروب العذاب والقهر والألم فوق أرض العم سام . هؤلاء العبيد المساكين كان يجري اصطيادهم من الأدغال والقرى المحاذية لشواطئ القارة السوداء ، أو يتم شرائهم بالجملة من الزعماء الأفارقة المحليين مقابل السلاح والبضائع الرخيصة ، ثم يقيدون ويكدسون واحدا فوق الآخر في عنابر قذرة في قعر السفن الشراعية العابرة للمحيطات في ظروف لا تليق حتى بالحيوانات ، فيموت الكثير منهم خلال الرحلة الطويلة الشاقة وصولا إلى الموانئ الأمريكية ، أما من ينجو فيتم بيعه لأصحاب المزارع الشاسعة في الجنوب الأمريكي ، يصبح ملكا صرفا لسيده يفعل به ما يشاء ، يكد ويتعب من الصباح حتى المساء دون أجر ، لا يحصل سوى على بقايا الطعام التي تقدم أيضا لحيوانات الحظيرة ، وقد تتعرض زوجته أو أبنته للاغتصاب من دون أن ينبس ببنت شفة ، ويجلد ويقتل لأتفه الأسباب ، ويأخذ أطفاله ليباعوا أمام ناظريه من دون أن يستطيع فعل شيء .. يا لها من حياة تعيسة .. ترك لنا العبيد صورا منها في أغانيهم وأهازيجهم الحزينة التي كانوا ينشدونها في الحقول .. كهذه القطعة الشعرية التي تصور لنا معاناة وحزن أم أخذوا منها أطفالها واحدا تلو الآخر :
عندما أخذوا الأول بدئت بالعويل
انحنت سيقان القصب لشدة صراخها
التوت البراعم الخضراء
وانقلعت الجذور الجائعة
عندما أخذوا الثاني ، نحيبها
وصل إلى الغيوم ، أيقظ العواصف الماطرة
ومن مهجعها ، عاد
بشلالات منهمرة
مع الثالث تدحرجت تنهيداتها إلى الوراء
إلى حنجرتها ، اختنقت هناك
ومع الرابع والخامس
كان قلبها قد تحول لحجر
لكن أروع تصوير لعذابات أولئك العبيد لم يكتبه الزنوج (1) أنفسهم ، بل أبدعته امرأة بيضاء ضئيلة الحجم عرفت بمناهضتها الشديدة للرق ، أنها الكاتبة الأمريكية هارييت بيتشر ستو ، صاحبة الرواية الخالدة "كوخ العم توم" ، التي تعد واحدة من أروع نصوص الأدب الأمريكي والعالمي ، ويقال بأنها كانت سببا في اشتعال الحرب الأهلية الأمريكية بين الشمال الداعي لتحرير العبيد والجنوب المتمسك بالرق لاعتماد اقتصاده الزراعي على اليد العاملة المجانية التي يوفرها العبيد ، فتلك الرواية خلقت مناخا مناهضا للعبودية تكلل بعد عشرة أعوام بإعلان الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن لما عرف بـ "إعلان تحرير العبيد" عام 1863 ، والذي كان بمثابة الشرارة التي أشعلت الصراع الدامي .
لكن حتى بعد إلغاء الرق رسميا ، أستمر التمييز ضد الزنوج في أمريكا ، وكان أحيانا يأخذ طابعا عنيفا دمويا ، خصوصا في الجنوب حيث توجد ثقافة راسخة أساسها احتقار الزنوج ونبذهم ، إذ لم يكن معظم السكان البيض قادرين على استيعاب حقيقة أن يصبح عبيدهم السابقين مواطنين كاملي الأهلية يتساوون معهم بالحقوق والواجبات ، وكرد فعل على هذه الحقيقة المرة بالنسبة إليهم ، ظهرت عصابات ومليشيات مسلحة بيضاء أخذت على عاتقها مهمة إرعاب الزنوج لكي لا يطالبوا بحقوقهم خصوصا فيما يتعلق بامتلاك الأراضي . خير مثال على ذلك الإرهاب العنصري هي جماعة "كوكلس كلان" التي أقدمت على قتل وتشريد وإحراق ممتلكات آلاف الزنوج ، وكان أسلوبها المفضل يتمثل بشنق ضحاياها وتعليقهم على جذوع الأشجار .
طقوس القتل الشريرة لم تكن مقتصرة على الجماعات العنصرية المتطرفة ، بل كانت تتخذ أحيانا طابعا حماسيا جماهيريا ، يشترك فيها الجميع ، ووثقت بعضها بالصور ، كما هو الحال مع الصورة موضوع مقالنا ، التي تظهر فيها جثتان مشنوقتان تعودان لكل من توماس شيب (19 عام) وإبرام سميث (18 عام) ، وهما زنجيان اتهما بقتل مالك مصنع أبيض يدعى كلود ديتير واغتصاب صديقته عام 1930 ، وكان لهما شريك ثالث يدعى جيمس كاميرون (16 عام) . جرى شنقهم في اليوم التالي لارتكاب الجريمة من قبل جماهير غاضبة اقتحمت مكان احتجازهم بتواطؤ من الشرطة المحلية ، حيث أشبعوا ضربا ثم سحلوا إلى ميدان عام ليشنقوا هناك على جذع شجرة ضخمة ، وعندما حاول ابرام تخليص نفسه من الحبل أنزلوه وكسروا يديه ثم علقوه مرة أخرى ، ولم ينجوا من الثلاثة سوى جيمس الذي أنقذه أحد الحضور قائلا بأنه لا علاقة له بالجريمة فأطلقوا سراحه . ولاحقا سجن جيمس لأربعة أعوام ثم أطلق سراحه وأصبح ناشطا بحركة الحقوق المدنية وعاش مديدا حتى توفي عام 2006 .
عملية الشنق مرت من دون عقاب ، كان الشابان المشنوقان مذنبان فعلا بقتل الضحية أثناء محاولتهما سلبه ماله ، لكن أتضح بأنهما لم يغتصبا صديقته ، كانت تلك تهمة ملفقة . كما أتضح بأن جيمس كاميرون لم يشارك في القتل ، إذ غادر مسرح الجريمة قبل أن يتم إطلاق النار على كلود ديتير .
صورة الشابين المشنوقين سرعان ما انتشرت ووزعت منها ملايين النسخ ، لم تكن صورا نادرة آنذاك ، كانت هناك مئات الصور المماثلة لزنوج تم شنقهم على هذه الشاكلة ، الكثير منهم كانوا أبرياء لم يقترفوا أي جرم ، كان ذنبهم الوحيد هو أنهم سود البشرة ، جرى شنقهم غالبا من قبل عصابات وجماعات عنصرية متعصبة من اجل إرعاب السود الآخرين .
الصورة كانت ستمر مرور الكرام مثل غيرها من الصور ، لولا الصدفة التي ألقت بها بين أيدي المدرس ابيل ميروبول . كان قد رأى الصورة في إحدى الصحف فانطبعت في ذهنه على الفور وظل شبحها يطارده ويثقل وجدانه لعدة أيام ، وألهمته كتابة قصيدة قصيرة أصبحت لاحقا واحدة من أشهر القطع الشعرية في تاريخ أمريكا .. قصيدة بعنوان "ثمار غريبة" :
أشجار الجنوب تحمل ثمار غريبة
دم على الأوراق ودم عند الجذر
أجساد سوداء تتأرجح في النسيم الجنوبي
ثمار غريبة تتدلى من أشجار الحور
مشهد ريفي من الجنوب الباسل
عيون منفوخة وفم ملتوي
عطر أزهار المنغوليا ، طيب ومنعش
ورائحة مفاجئة للحم محروق!
هنا ثمار للغربان كي تأكل
للمطر كي يتجمع ، للرياح كي تمتص
للشمس كي تُفسد، للشجر كي ينفض
هنا ثمار غريبة ومرة
وقد زادت شهرة هذه القصيدة كثيرا بعد أن غنتها مطربة الجاز السمراء بيلي هوليدي عام 1939 فتحولت أغنيتها إلى أيقونة تذكر الأفارقة الأمريكان بما عاناه أجدادهم وآبائهم من تمييز وظلم .