ان اللسان هو اكثر اسلحة الانسان دمارا ففى كثير من الاحيان يكون احد من السيف وكثير ما يورد صاحبة موارد السوء والتهلكة فعلى الفرد منا حسن اختيار الفاظة بعناية قبل ان يتلفظ بها ويجرح الاخرين واليكم قصة تدلل على هذا الموضوع وتوضحة:
اضطر أحد فقهاء اللغة يوما لأن يقضي حاجة على الشاطئ الآخر من مدينته عابرا النهر الذي يقسم المدينة إلى جزأين، وليتجاوز هذا الممر المائي كان عليه أن يركب أحد القوارب الصغيرة مع مراكبي بسيط، ولأن الفقيه اللغوي كان يرى نفسه صاحب علم فقد كانت ملامحه تنمّ عن ضجر وبعض الاشمئزاز من ذلك المركب الصغير، ومن صاحبه بسيط الحال.
وزاد من استياء الرجل أنه شعر أن المراكبي لم يتعرف عليه ولم يعامله المعاملة التي يستحق من وجهة نظره، فقال في تكبّر: ألا تعرفني يا رجل؟
فنظر إليه المراكبي وهو يحاول أن يتذكر أين رآه، ولما فشل في ذلك قال في أدب: اعذرني يا سيدي فهناك الكثير من الناس يركبون معي يوميا.
فنظر له الفقيه بغيظ، ولكنه أخفى غيظه عن صوته، وقال: أنا لم أركب قاربك من قبل؛ فأنا قليل الابتعاد عن البلدة؛ لانشغالي في التدريس بالجامعة، ولكن يبدو أنك لا تعرف الكثير عن الجامعة، وربما لم تزرها من قبل، وإلا كنت عرفت أني فلان الفلاني الفقيه والعالم اللغوي المرموق!!
احمرّ وجه المراكبي خجلا قبل أن يقول في بشاشة: مرة أخرى أكرر اعتذاري لجهلي بك يا سيدي، لقد شرّفتني وشرّفت مركبي بصحبتي في هذه الرحلة.
فقال الرجل بتواضع مزيّف يفوح منه الغرور: لا عليك أيها المراكبي البسيط.. لا عليك.
وبعد أن قدّم المراكبي بعض قطع الحلوى التي كان يملكها لهذا الضيف المرموق جلس في طرف المركب يوجّه دفته للشاطئ الآخر، ومركبه يسير ببطء وتأنٍّ.
غرور عالم
لكن العالِم أحسّ أن الرجل لا يعرف قيمة ضيفه، فأراد أن يعرّفه قيمته، فناداه قائلا: قل لي أيها المراكبي البسيط، هل قرأت يوما في الشعر الجاهلي، وحفظت المعلقات، وهضمت شعر عنترة وامرئ القيس؟!
فنظر له الرجل وهو يحاول تذكّر الأسماء، وقال في براءة: لا والله يا سيدي.
فرد الفقيه في زهو: حسرة عليك يا أيها المراكبي البسيط، لقد ضاع نصف عمرك!!
وبعد قليل عاد الفقيه لممارسة دور العالم الكبير على الرجل البسيط، فقال له: أتراك إذن قد درست المناظرة العامرة بين الكسائي وسيبويه في المسألة الزنبورية؟!
فغر الرجل فاه تعجبا مما يسمعه، وقال في تلعثم: مع الأسف لا يا سيدي.
فقال الفقيه في عجب: حسرة عليك يا أيها الرجل، لقد ضاع نصف عمرك!!
ولم يمر وقت طويل حتى عاد إلى أسئلته، وقال: ولكني أعتقد أنك وضعت يدك على المقاصد اللغوية عند جرير والفرزدق، وما يميز أحدهما عن الآخر في هذا المجال؟!
فردّ الرجل وقد بدأ يسأم هذه اللعبة، وقال: لا يا سيدي لم أسمع بها.
فردّ الرجل وهو يشعر بأنه قد أصاب مقصده: حسرة عليك أيها المراكبي البسيط، لقد ضاع نصف عمرك!!
حيلة المراكبي
كتم الرجل غيظه وعاد لمواصلة عمله، وقبل أن يصل المركب إلى الشاطئ الأخر بقليل هبّت بعض الرياح غير المواتية، فاهتزّ المركب الصغير تأثرا بها، فانزعج الشيخ العالم، وقال في توتر: ما هذا؟
وهنا التقط المراكبي طرف الخيط، وأراد أن يعلّم العالم الكبير درسا لا ينساه، فقال: إنها رياح خفيفة.
فتنهّد الرجل وجلس مكانه، وقبل أن تعود ملامحه إلى طبيعتها فؤجئ بالرجل يواصل كلامه ويقول: ولكن هبوب هذه الرياح معناه أن هناك عاضفة قوية في الطريق، وربما كانت إعصارا لا يُبقي ولا يذر، يقلب القوارب الضخمة، ويطيح بالسفن الفخمة.
فأرتعب العالِم وقال في تلعثم: وماذا سيحدث لنا حينئذ؟
فأجابه: لا تقلق سنسبح حتى الشاطئ الآخر.
فقال العالِم في ذعر: نسبح؟!!
فأجابه المراكبي في تعجّب مصطنع مقلدا أسلوب العالم في أسئلته السابقة: ألا تجيد السباحة؟!
فردّ: لا.
فأجابه المراكبي: واحسرتاه .. لقد ضاع عمرك كله!!
وبالطبع لم يضع عمر الرجل؛ لأن النهر الصغير لا توجد به مثل هذه العواصف أو الأعاصير، ولكن الفقيه اللغوي الذي ظن أنه يحقّ له أن يُطلق لسانه كيفما شاء، وأن يتباهى بما يعرف أدرك أنه يجهل الكثير، وأنه يخسر الكثير من احترام الآخرين، وربما اكتسب عداوتهم إذا لم يحسن استخدام لسانه.
لقد تعلّم الشيخ من المراكبي الكثير بعد هذه الرحلة القصيرة، وهو يكاد يدعونا إلى أن نتعلم كيف نمسك ألسنتنا قبل أن تلقي بنا في التهلكة.
فكم مرة تسرعنا فيها بالنطق عندما كان علينا الصمت.. وكم مرة آثرنا حقد الآخرين علينا بسبب كلمة زهو أو عجب حتى وإن كنا نستحقها.. وكم مرة لم نُشعر الآخرين بقيمتهم، وعوضا عن ذلك أوصلنا لهم أننا لا نحترمهم، حتى لو كنا لم نقصد هذا بالفعل ولكن خانتنا كلماتنا؟!
أتمنى أن يكون الموضوع حاز على إعجابك وتكون إستفدت معنا وتابعنا للمزيد من الموضوعات الهامة والشيقة